الفصل الثاني: السيرة النبوية

من كتاب: رحلة الإيمان: من البداية إلى النهاية
الفصل الثاني: السيرة النبوية

الفصل الثاني: السيرة النبوية

من كتاب: رحلة الإيمان: من البداية إلى النهاية

نسبه الشريف: شجرة مباركة ممتدة عبر الزمن

بداية الحكاية: نسب متصل بأشرف الخلق

كان النبي محمد ﷺ منذ ولادته مميزًا، ليس فقط بما اختاره الله له من رسالة، ولكن أيضًا بنسبه الذي لم يكن عاديًا، بل كان أشرف الأنساب على الإطلاق. فقد اختاره الله عز وجل من أكرم بيت في العرب، واصطفاه من بين القبائل ليحمل الرسالة الخاتمة.

قال النبي محمد ﷺ في الحديث الشريف:
"إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم" (رواه مسلم).
هذا الحديث يبيّن مكانة نسب النبي ﷺ وكيف اختاره الله من أكرم وأفضل البيوت، ليكون هذا النسب انعكاسًا لجلال المهمة التي سيحملها.


شجرة نسبه المباركة

يعود نسب النبي ﷺ إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. إسماعيل، الذي وُلد من أم صابرة ومخلصة، السيدة هاجر، والذي كانت حياته كلها تجسيدًا للتضحية والطاعة لله، هو الجد الأكبر للنبي محمد ﷺ.
شجرة النسب الشريف للنبي هي:

  • محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وينتهي نسب عدنان إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. فالنبي محمد ﷺ هو الحفيد المباشر لهذا النبي العظيم، مما يربطه مباشرة بجده إبراهيم عليه السلام، الذي وصفه الله بقوله:
"إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين" (النحل: 120).


قبيلة قريش: عظمة القبيلة التي انتمى إليها

كان النبي محمد ﷺ ينتمي إلى قبيلة قريش، وهي القبيلة الأكثر احترامًا ونفوذًا في الجزيرة العربية. قريش لم تكن مجرد قبيلة عادية، بل كانت موكلة بخدمة البيت الحرام، الكعبة المشرفة، التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

كان أفراد قريش معروفين بالشجاعة والكرم والفصاحة. ومن بين هذه القبيلة، كان بني هاشم، الفرع الذي ينتمي إليه النبي ﷺ، أرفع مكانة وأكثرها احترامًا. كان بنو هاشم يتميزون بالكرم الشديد والاهتمام بالضعفاء والمحتاجين، وقد ورث النبي ﷺ هذه الصفات عن أجداده.


عبد المطلب: الجد العظيم

عبد المطلب، جد النبي ﷺ، كان شخصية محورية في قريش. كان سيدًا في مكة، يحظى باحترام كبير بسبب شجاعته وكرمه وحكمته. عبد المطلب هو الذي حفر بئر زمزم بعد أن اندثرت، وهو الذي وقف بشجاعة أمام أبرهة الحبشي حين حاول هدم الكعبة، مكتفيًا بالقول:
"للبيت رب يحميه".
وكانت حادثة عام الفيل، التي وُلد فيها النبي ﷺ، علامة على حماية الله لهذا النسب العظيم.


اختيار النسب من منظور ديني

يُظهر اختيار الله لهذا النسب الشريف أن الله يختار رسله من أشرف الأقوام وأطهر البيوت. قال الله تعالى:
"الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الأنعام: 124).

لقد اختار الله النبي محمد ﷺ من نسب شريف ليكون قدوة للعرب، فهو منهم ويعرفونه ويعرفون شرف نسبه. هذا الاختيار لم يكن عشوائيًا، بل كان تهيئة إلهية ليكون النبي قادرًا على التواصل مع قومه وإقناعهم برسالته.


مكانة بني هاشم في قريش والعرب

كان بنو هاشم يتميزون بمكانتهم العالية في قريش. كانوا معروفين بالكرم والعطاء، وكان عبد المطلب، جد النبي ﷺ، يُطعم الحجاج ويسقيهم من بئر زمزم، التي حفرها بيده. كانت هذه الصفات من أسباب احترام القبائل العربية للنبي ﷺ حتى قبل بعثته، حيث عرفوه بلقب "الصادق الأمين".

قال تعالى عن النبي محمد ﷺ:
"لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم" (التوبة: 128).
جاء النبي من قريش ليكون قريبًا من قلوبهم، ويخاطبهم بلغتهم، ويدعوهم بصدق وأمانة.


الاتصال بالأنبياء: سلسلة مباركة

يرتبط نسب النبي ﷺ بنبيين عظيمين:

  1. إسماعيل عليه السلام:
    إسماعيل هو ابن إبراهيم الذي نشأ في مكة وبنى الكعبة مع أبيه إبراهيم عليه السلام. كان إسماعيل نبيًا ودعا قومه إلى التوحيد. قال الله تعالى:
    "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولًا نبيًّا" (مريم: 54).
    إسماعيل هو الجد المباشر للعرب العدنانيين، الذين ينتمي إليهم النبي محمد ﷺ.

  2. إبراهيم عليه السلام:
    إبراهيم، الذي وصفه الله بـ"خليل الله"، كان من أعظم الأنبياء، وكانت دعوته للتوحيد هي الأساس الذي استندت إليه رسالة النبي محمد ﷺ. قال تعالى:
    "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" (البقرة: 127).
    دعوة إبراهيم بأن يُرسل من ذريته نبيًا كانت مستجابة بمحمد ﷺ. قال إبراهيم:
    "ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" (البقرة: 129).


الحكمة من اصطفاء هذا النسب

اصطفاء النبي ﷺ من هذا النسب الشريف يحمل دلالات عظيمة:

  1. تقوية الحجة: العرب كانوا يعظمون الأنساب، فجعل الله رسوله من أشرف نسب ليكون ذلك داعمًا لرسالته.
  2. تعظيم مكانته بين قومه: كان قريش يعرفون مكانة بني هاشم، مما جعلهم يدركون أن هذا النبي ليس غريبًا عنهم، بل من أفضل بيوتهم.
  3. تكامل الرسالات: نسب النبي المتصل بإسماعيل وإبراهيم يعكس وحدة الرسالة الإلهية عبر التاريخ، وأن الإسلام هو امتداد لرسالة التوحيد التي جاء بها الأنبياء.

دروس وعبر من نسب النبي محمد ﷺ

  1. الرسالة أمانة عظيمة: الله لا يُرسل رسوله إلا من أطهر القلوب وأشرف الأنساب.
  2. مكانة الأخلاق: شرف النسب لا يكفي، بل يُكمله علو الأخلاق. النبي ﷺ لم يكن فقط من نسب شريف، بل كان أيضًا أكرم الناس خُلقًا.
  3. قدوة للعرب والبشرية: نسب النبي جعله قريبًا من قلوب العرب، وأخلاقه جعلته قدوة للبشرية جمعاء.

هذا النسب الشريف للنبي محمد ﷺ هو انعكاس لعناية الله واختياره. ليس مجرد شجرة نسب، بل سلسلة من الأحداث والشخصيات التي شكلت أرضية متينة لحمل الرسالة الخاتمة، والتي ستبقى نورًا للبشرية إلى يوم القيامة.

ولادته المباركة: حدث تاريخي غير عادي

في فجر عام الفيل: ميلاد النور

كانت ولادة النبي محمد ﷺ واحدة من أعظم الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ. وُلد النبي في مكة المكرمة في عام الفيل، وهو العام الذي حاول فيه أبرهة الحبشي، حاكم اليمن، هدم الكعبة المشرفة. لقد حاول أبرهة بجيش جرار وفيل عظيم أن يدمر بيت الله، ولكن الله سبحانه وتعالى أرسل عليهم طيرًا أبابيل تحمل حجارة من سجيل، فقضت عليهم بالكامل. قال الله تعالى:
"ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم في تضليل. وأرسل عليهم طيرًا أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل. فجعلهم كعصف مأكول" (الفيل: 1-5).

هذا الحدث العجيب لم يكن مجرد حماية للكعبة، بل كان تهيئة للأرض لاستقبال النبي محمد ﷺ، الذي سيحمل رسالة التوحيد ويدعو الناس لعبادة الله وحده.


ليلة الميلاد: إشارات وعلامات

ولد النبي ﷺ في ليلة الاثنين الموافق 12 من ربيع الأول، في السنة التي توافق 571 ميلادية تقريبًا. ولادته لم تكن عادية، فقد صاحبتها إشارات وعلامات تدل على عظمته ومكانته:

  1. انطفاء نار فارس: كانت نار فارس، التي عبدها المجوس، مشتعلة لآلاف السنين ولم تنطفئ قط، إلا في الليلة التي وُلد فيها النبي ﷺ، إشارة إلى أن زمن الكفر والشرك سينتهي برسالة الإسلام.
  2. اهتزاز عرش كسرى: انهدمت بعض شرفات قصر كسرى أنوشروان في تلك الليلة، مما كان نذيرًا بانتهاء عظمة مملكته أمام نور الإسلام.
  3. نور ساطع في السماء: رأت أم النبي، آمنة بنت وهب، نورًا يخرج منها يضيء قصور الشام. قالت آمنة:
    "رأيت حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاء لي قصور بُصرى من أرض الشام."

وفاة والده عبد الله: اليتم قبل الميلاد

كان والد النبي ﷺ، عبد الله بن عبد المطلب، شابًا من أشرف رجال قريش وأحب أبناء عبد المطلب. تزوج من آمنة بنت وهب، وكانت قريش تعتبرها من أعظم النساء نسبًا وشرفًا.

لكن عبد الله توفي وهو في ريعان شبابه أثناء رحلة تجارية إلى الشام، قبل أن يرى ابنه محمد ﷺ. ترك آمنة تحمل جنينها، وهي لا تعلم أن هذا الطفل سيكون أعظم من مشى على الأرض.

قال الله تعالى:
"ألم يجدك يتيمًا فآوى" (الضحى: 6).
لقد أراد الله أن يبدأ النبي حياته باليتم، ليكون هذا الإعداد إشارة إلى أن الله هو وليه وحافظه، وليكون قدوة للأيتام والمحتاجين.


آمنة بنت وهب: الأم العظيمة

آمنة بنت وهب، والدة النبي ﷺ، كانت من أكرم نساء قريش وأشرفهن نسبًا. كانت امرأة عفيفة، مهيبة، وحكيمة، اختارها الله لتكون أم خاتم الأنبياء.

قال العلماء إن آمنة كانت تشعر بطمأنينة وسكينة أثناء حملها، وقد رأت رؤيا عظيمة في المنام حين قيل لها:
"إنك قد حملت بسيد هذه الأمة. فإذا وقع على الأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمدًا."

كانت هذه الرؤيا بشارة بأن هذا الطفل سيكون له شأن عظيم، واسمه "محمد" الذي لم يكن شائعًا في العرب، يدل على أنه سيكون "المحمود" في الأرض والسماء.


رضاعته: البداية في البادية

كما كانت العادة عند العرب، أرسلت آمنة ابنها محمدًا ﷺ إلى البادية لينشأ في بيئة نقية وصحية. اختيرت له حليمة السعدية من بني سعد لترضعه وتربيه. ومنذ أن أخذته حليمة إلى بيتها، بدأت البركات تحل عليها:

  1. زاد لبن أغنامها بشكل لم تعهده من قبل.
  2. أصبح بيتها مملوءًا بالخير والرزق.
  3. عاد زوجها ليقول لها:
    "يا حليمة، لقد أخذتِ نسمة مباركة."

عاش النبي ﷺ مع حليمة في بني سعد حتى بلغ الرابعة من عمره، وهناك وقع الحدث العجيب المعروف بـشق الصدر.


حادثة شق الصدر: تطهير القلب

بينما كان النبي ﷺ يلعب مع أقرانه من الأطفال في البادية، جاءه جبريل عليه السلام، فأخذه وأضجعه وشق صدره. أخرج جبريل قطعة سوداء من قلبه وقال:
"هذا حظ الشيطان منك."

ثم غسل قلبه في طست من ذهب مليء بماء زمزم، وأعاده إلى مكانه. كان هذا الحدث إعدادًا إلهيًا للنبي ﷺ ليكون قلبه طاهرًا نقيًا من أي وسوسة أو تأثير شيطاني.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه:
"لقد كنت أرى أثر المخيط في صدره." (رواه مسلم).


عودته إلى أمه: الحنين للوطن

بعد حادثة شق الصدر، خافت حليمة على النبي ﷺ وأعادته إلى أمه في مكة. عاش مع أمه فترة قصيرة حتى بلغ السادسة من عمره. وفي أحد الأيام، خرجت آمنة مع ابنها محمد ﷺ إلى يثرب (المدينة المنورة) لزيارة أخواله من بني النجار.


وفاة أمه آمنة: حزن عميق في قلب صغير

وأثناء عودتهم من يثرب، توفيت آمنة بنت وهب في منطقة الأبواء، تاركة ابنها يتيم الأم والأب. كان النبي ﷺ في السادسة من عمره فقط، ولكنه شعر بعمق الحزن لفقدان أمه.

قال الله تعالى:
"ألم يجدك يتيمًا فآوى" (الضحى: 6).
كانت هذه التجربة المؤلمة جزءًا من إعداد الله للنبي ﷺ، ليشعر بمعاناة اليتامى والمساكين، ويكون رحيمًا بهم في رسالته المستقبلية.


كفالة جده عبد المطلب: الحنان والرعاية

بعد وفاة أمه، انتقل النبي ﷺ للعيش مع جده عبد المطلب. كان عبد المطلب رجلًا وقورًا، يحظى بمكانة عظيمة في مكة، وكان يرى في حفيده محمد ﷺ صفات تميزه عن باقي الأطفال. كان يجلسه إلى جانبه في مجلس الكعبة، ويقول لأهل قريش:
"هذا ابني له شأن عظيم."

ظل عبد المطلب يعتني بالنبي ﷺ حتى توفي عندما بلغ النبي الثامنة من عمره.


يتيمًا لكنه قوي: كفالة عمه أبو طالب

بعد وفاة عبد المطلب، تولى أبو طالب، عم النبي ﷺ، كفالته. كان أبو طالب رجلاً فقيرًا لكنه شجاع وكريم، وكان يحب النبي ﷺ حبًا شديدًا.

نشأ النبي في بيت عمه، وتعلم العمل ورعاية الغنم منذ صغره، مما أكسبه قوة الشخصية والاعتماد على النفس. هذه البيئة الصعبة جعلته يدرك قيمة العمل والجد، وشكلت جزءًا أساسيًا من شخصيته القيادية.


النسب والولادة: إعداد إلهي عظيم

كل مرحلة في حياة النبي محمد ﷺ قبل بعثته كانت إعدادًا من الله له. من نسبه الشريف الذي أعطاه احترامًا بين قومه، إلى فقدانه والديه الذي جعله يعتمد على الله وحده، ومن الرعاية في البادية التي أكسبته قوة الجسد وصفاء الروح، إلى كفالة جده وعمه التي زرعت فيه الشجاعة والرحمة.

قال الله تعالى:
"وإنك لعلى خلق عظيم" (القلم: 4).
لقد أعد الله نبيه إعدادًا خاصًا ليكون أهلاً لحمل الرسالة الخاتمة، وليرشد الناس إلى الطريق المستقيم.

نشأته المباركة: إعداد القائد الذي سيغير العالم

في كنف عمه أبو طالب: الحماية والحنان

بعد وفاة جده عبد المطلب، انتقل النبي محمد ﷺ إلى كنف عمه أبو طالب، الذي أحاطه بحب عظيم رغم قلة موارده وكثرة عياله. كان أبو طالب يدرك مكانة ابن أخيه الفريدة، فقد لاحظ منذ صغره صفات مميزة جعلته يحبه ويوليه اهتمامًا خاصًا.

كان أبو طالب يحرص على أن يكون النبي محمد ﷺ قريبًا منه دائمًا، فكان يأخذه معه في أسفاره التجارية، كما كان يدافع عنه بكل ما يملك. وفي إحدى الروايات، حين كان عمر النبي ﷺ حوالي 12 عامًا، اصطحبه أبو طالب في رحلة تجارية إلى الشام.


رحلة الشام: لقاء بحيرا الراهب

في هذه الرحلة التجارية، وصل أبو طالب بالنبي ﷺ إلى منطقة بُصرى في الشام، وهناك حدثت واقعة غريبة. كان في تلك المنطقة راهب يُدعى بحيرا، كان عالِمًا بالكتب السماوية. حين رأى بحيرا النبي محمد ﷺ، لاحظ علامات النبوة التي وردت في كتب أهل الكتاب:

  • لاحظ خاتم النبوة على كتفه، وهو علامة جسدية ذُكرت في النصوص القديمة.
  • رأى في وجهه نورًا يدل على طهره ونقائه.
  • لاحظ أن الغمامة كانت تظلله من الشمس أثناء سيره.

بحيرا نصح أبا طالب أن يحذر على هذا الصبي، قائلاً:
"احذر عليه من اليهود، فإنه سيكون له شأن عظيم."

كانت هذه الواقعة تذكيرًا إضافيًا بأن محمدًا ﷺ لم يكن شخصًا عاديًا، بل كان محاطًا بعناية إلهية منذ طفولته.


العمل ورعي الغنم: مدرسة الحياة

عاد النبي محمد ﷺ إلى مكة، حيث بدأ يعمل في رعي الغنم لمساعدة عمه. قال النبي ﷺ لاحقًا:
"ما من نبي إلا وقد رعى الغنم."
فقالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال:
"وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة." (رواه البخاري).

رعي الغنم كان أكثر من مجرد وسيلة لكسب العيش؛ لقد كان مدرسة إلهية لتعليم النبي الصبر، والتأمل، وتحمل المسؤولية.

  • الصبر: تعلم النبي ﷺ من رعي الغنم كيف يعتني بالأضعف، وكيف يتحمل الصعوبات.
  • القيادة: تعلم كيف يقود القطيع ويوجهه، وهي مهارة ستنعكس لاحقًا في قيادته للأمة.
  • التأمل: في البرية، بعيدًا عن صخب مكة، كان النبي ﷺ يجد وقتًا للتأمل في خلق الله، وهو ما زاد من عمق إيمانه.

سمعته بين الناس: الصادق الأمين

منذ صغره، كان النبي محمد ﷺ معروفًا بصدقه وأمانته. لم يكن يقول إلا الحق، ولم يخن أمانة قط. لهذه الأسباب، أطلق عليه أهل مكة لقب "الصادق الأمين".

  • إذا كان أحدهم يريد حفظ أمواله أو ممتلكاته الثمينة، كان يضعها عند محمد ﷺ.
  • إذا حدث نزاع بين القبائل، كانوا يلجأون إليه لحل النزاع، لما عرفوا عنه من حكمة وعدل.

قال الله تعالى:
"وإنك لعلى خلق عظيم" (القلم: 4).
هذه الأخلاق العالية التي عرف بها النبي ﷺ قبل البعثة كانت تهيئة من الله له ليكون نموذجًا يُحتذى به في دعوته للإسلام.


حادثة إعادة بناء الكعبة: بداية القبول بين قريش

حين بلغ النبي محمد ﷺ سن الخامسة والثلاثين، وقعت حادثة هامة في مكة. أصاب الكعبة سيل عظيم أدى إلى تضررها، فقررت قريش إعادة بنائها.

  • اشتركت جميع قبائل قريش في عملية البناء.
  • حين جاء وقت وضع الحجر الأسود في مكانه، اشتد الخلاف بين القبائل، إذ أراد كل فريق شرف وضع الحجر بيديه.

استمر النزاع أيامًا، حتى كادت الأمور تتطور إلى قتال. اتفقوا في النهاية على أن أول من يدخل عليهم من باب المسجد الحرام هو الذي سيحكم بينهم.

دخل النبي محمد ﷺ، ففرحت القبائل، وقالوا:
"هذا محمد، الصادق الأمين، رضينا بحكمه."

أمرهم النبي أن يضعوا الحجر الأسود على ثوب، وطلب من كل قبيلة أن تمسك بطرف من أطراف الثوب، ثم رفعه الجميع معًا. بعد ذلك، أمسك النبي الحجر بيديه الشريفتين ووضعه في مكانه.
بهذا الحل الحكيم، أطفأ النبي فتيل النزاع وأثبت حكمته وعدله.


الزواج من خديجة: الاستقرار العاطفي والدعم الروحي

عندما بلغ النبي محمد ﷺ سن الخامسة والعشرين، تزوج من السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، التي كانت من أشرف نساء قريش وأغناهن.

  • كانت خديجة تاجرة ذات مكانة عظيمة، وعندما سمعت عن أمانة النبي وصدقه، عرضت عليه أن يتاجر بأموالها.
  • خرج النبي في رحلة تجارية إلى الشام بأموال خديجة، وعاد بربح وفير، مما زاد من إعجابها به.

خديجة كانت تكبر النبي بخمسة عشر عامًا، لكنها رأت فيه صفات الرجل الكامل، فتقدمت للزواج منه. وافق النبي ﷺ، وكان زواجهما نموذجًا للحب والوفاء.

  • كانت خديجة أول من آمن بالنبي ﷺ.
  • دعمت النبي بكل ما تملك، ماليًا ومعنويًا.

قال النبي ﷺ عنها:
"آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس." (رواه أحمد).


التأمل في غار حراء: البحث عن الحقيقة

مع مرور السنوات، بدأ النبي محمد ﷺ يميل إلى التأمل والانعزال عن صخب مكة وعبادة الأصنام التي كانت تغمر حياة قريش. كان يجد في غار حراء، على أطراف مكة، ملاذًا للسكينة والتفكر.

  • كان يقضي أيامًا وليالي في الغار، يتأمل في خلق السماوات والأرض، ويفكر في خالق هذا الكون العظيم.
  • كان يشعر أن عبادة الأصنام التي يمارسها قومه لا يمكن أن تكون الحق، لكنه لم يكن يعلم بعد ما هو الطريق الصحيح.

كان هذا التأمل في غار حراء بداية الوحي، والإعداد المباشر من الله للنبي ﷺ لتلقي أعظم رسالة في تاريخ البشرية.


الخلاصة: إعداد النبوة

كل مرحلة من حياة النبي محمد ﷺ قبل البعثة كانت إعدادًا إلهيًا له.

  • نسبه الشريف أكسبه الاحترام بين قومه.
  • عمله كرعي الغنم ثم التجارة علمه الصبر والمسؤولية.
  • صدقه وأمانته جعلته محبوبًا ومقبولًا بين الناس.
  • زواجه من خديجة منحه الدعم العاطفي والروحي.
  • تأمله في غار حراء هيأ قلبه لاستقبال أعظم رسالة سماوية.

قال الله تعالى:
"وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني" (طه: 39).
كان النبي محمد ﷺ في كل لحظة من حياته يعيش تحت عناية الله وإعداده، ليكون خاتم الأنبياء ورسولًا للعالمين.

نزول الوحي: بداية الرسالة السماوية

البحث عن الحقيقة في غار حراء

مع اقتراب النبي محمد ﷺ من سن الأربعين، بدأت بوادر النبوة تظهر عليه بوضوح. كان يميل إلى العزلة، بعيدًا عن صخب الحياة في مكة وعبادة الأصنام. كانت مكة في تلك الفترة غارقة في الجهل والشرك، حيث يعبد أهلها أصنامًا صنعوها بأيديهم، وكان النبي ﷺ يرى في ذلك ضلالًا كبيرًا.

وجد النبي ﷺ في غار حراء ملاذًا للسكينة والتأمل. كان الغار يقع على قمة جبل النور، في مكان يطل على مكة، بعيدًا عن ضجيج المدينة وعبث أهلها. كان النبي ﷺ يأخذ معه قليلًا من الطعام والماء، ويبقى أيامًا وليالي يتأمل في خلق الله، باحثًا عن الحقيقة وعن إجابة للسؤال الكبير: من الذي خلق هذا الكون؟ وكيف يمكن للبشر أن يعيشوا وفق هدى هذا الخالق العظيم؟


ليلة القدر: اللقاء الأول مع جبريل

وفي ليلة مباركة من ليالي رمضان، في غار حراء، جاء النبي محمد ﷺ أول لقاء مع جبريل عليه السلام، حامل الوحي الإلهي. كانت هذه الليلة بداية أعظم حدث في تاريخ البشرية.

بينما كان النبي ﷺ جالسًا في الغار، غمرت المكان رهبة عظيمة، وظهر جبريل عليه السلام فجأة. قال النبي ﷺ فيما بعد عن هذا الحدث:
"جاءني جبريل، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم." (رواه البخاري ومسلم).

كانت هذه اللحظة بداية الرسالة الإلهية. الكلمات التي نزلت في تلك اللحظة ليست مجرد كلمات، بل هي إعلان أن الله قد اختار محمدًا ﷺ ليكون خاتم الأنبياء، ورسول الله إلى البشرية.


العودة إلى البيت: الارتجاف والخوف

بعد أن انتهى اللقاء الأول مع جبريل، شعر النبي ﷺ برهبة شديدة. لم يكن الأمر بسيطًا، فقد كان لقاءً مع جبريل، مخلوق من نور، وحامل رسالة الله. نزل النبي ﷺ من جبل النور وقلبه يضطرب، وجسده يرتجف من هول الموقف.

عندما وصل إلى بيته، دخل على زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها وقال:
"زملوني، زملوني" (أي غطوني).

غطته خديجة حتى هدأ، ثم قال لها:
"لقد خشيت على نفسي."

لكن خديجة، تلك الزوجة الحكيمة، التي كانت ترى في زوجها أعظم الصفات، هدأت من روعه وقالت:
"كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق."

كانت كلمات خديجة بمثابة طمأنة إلهية، فهي أول من آمن به وصدق رسالته دون شك.


الذهاب إلى ورقة بن نوفل

أخذت السيدة خديجة رضي الله عنها النبي ﷺ إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخًا كبيرًا قد اعتنق النصرانية، وكان عالمًا بالكتب السماوية.

استمع ورقة إلى النبي ﷺ وهو يحكي ما حدث له في غار حراء، فقال ورقة بعد أن تأمل القصة:
"هذا الناموس الذي نزّله الله على موسى. ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك."

تعجب النبي ﷺ وقال:
"أو مخرجيَّ هم؟"

فقال ورقة:
"نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا."

كانت هذه الكلمات تأكيدًا على أن النبي ﷺ هو النبي المنتظر، وأن ما نزل عليه هو الحق من عند الله.


مرحلة الدعوة السرية: الدعوة إلى الله في الخفاء

بعد نزول الوحي، بدأ النبي محمد ﷺ بالدعوة إلى الله سرًا. كان يدعو من يثق بهم من أقرب الناس إليه. كانت البداية بطيئة، لكن الرسول ﷺ كان حريصًا على أن ينقل الرسالة بحكمة وصبر.

أول من آمن به:

  1. السيدة خديجة بنت خويلد: أول من آمن به من النساء، وكانت داعمًا روحيًا وماديًا له في كل مراحل الدعوة.
  2. أبو بكر الصديق: أول من آمن به من الرجال. كان صديقًا مقربًا للنبي ﷺ، وكان معروفًا بحكمته وصدقه.
  3. علي بن أبي طالب: ابن عمه، وكان يعيش معه في بيته. آمن بالنبي ﷺ وهو صغير السن.
  4. زيد بن حارثة: مولى النبي ﷺ، وكان يعتبره بمثابة ابنه.

بدأ النبي ﷺ بدعوة هؤلاء الأقرب إليه، ثم بدأوا بدورهم ينقلون الدعوة لمن يثقون بهم.


مدة الدعوة السرية: ثلاث سنوات من الحكمة والصبر

استمرت الدعوة السرية ثلاث سنوات. كان النبي ﷺ يدعو الناس سرًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، حيث كان المسلمون الأوائل يجتمعون ليتعلموا القرآن ويتدارسوا تعاليم الإسلام.

أسباب الدعوة السرية:

  1. خطر قريش: قريش كانت تعارض أي دعوة جديدة تهدد مكانتها الدينية والاجتماعية.
  2. تأمين المؤمنين الأوائل: كان عدد المسلمين قليلًا، وكانوا بحاجة إلى الوقت ليقوى إيمانهم قبل مواجهة الاضطهاد.
  3. التخطيط والحكمة: أراد النبي ﷺ أن ينشر الدعوة بحكمة، لتصل إلى أكبر عدد ممكن قبل أن تبدأ المواجهة العلنية.

الدعوة الجهرية: الأمر الإلهي بإعلان الرسالة

بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية، جاء الأمر الإلهي للنبي ﷺ بالجهر بالدعوة. قال الله تعالى:
"فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" (الحجر: 94).

بدأ النبي ﷺ بالدعوة علنًا، فجمع بني هاشم على جبل الصفا وقال:
"يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة، إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد."

لكن الرد لم يكن كما كان يأمل. قال له عمه أبو لهب مستهزئًا:
"تبًا لك، ألهذا جمعتنا؟"

فنزل قوله تعالى:
"تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى نارًا ذات لهب" (المسد: 1-3).


الخلاصة: بداية النبوة، بداية التغيير

كانت بداية نزول الوحي نقطة تحول عظيمة في حياة النبي محمد ﷺ، وفي تاريخ البشرية جمعاء.

  • جعلت النبي يتحول من رجل يبحث عن الحقيقة إلى رسول يحمل رسالة الله للبشرية.
  • كانت هذه المرحلة مليئة بالمشاعر المتضاربة: الرهبة من لقاء جبريل، الفرح بالدعوة، والصبر على رفض قريش له.

قال الله تعالى:
"يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر" (المدثر: 1-5).

بهذا الأمر الإلهي، بدأ النبي محمد ﷺ رحلة طويلة من الدعوة والصبر والجهاد، لنشر نور الإسلام في العالم.

gdf

الفصل الثاني: السيرة النبوية

من كتاب: رحلة الإيمان: من البداية إلى النهاية
×